قرى الكتلة الكلسية شمال سورية تاريخ عريق

الخميس 23 يوليو 2020 - 12:17 بتوقيت غرينتش
قرى الكتلة الكلسية شمال سورية تاريخ عريق

تطلق تسمية قرى الكتلة الكلسية على منطقة الجبال الواقعة شمال غربي سورية، والتي تمتد على مساحة واسعة بين الحدود التركية شمالاً ومدينة أفامية الأثرية بطول حوالي 100كم، وعرض حوالي 15-20كم، وتحدها وديان عفرين والعاصي في الغرب، وسهل حلب في الشرق.

 

وصف وتاريخ القرى

هذه المنطقة هي منطقة جبال متوسطة، تتألف من سلسلة من السهول المتموجة المتفاوتة الارتفاع، ويتراوح علوها بين 400م و900م. تسيطر على هذه المنطقة كتلتان رئيستان هما جبل الزاوية وجبل سمعان، ويفصل بينهما سهل شالسيس الخصب، وترتبط بالعاصي بسلسلة من الجبال الأصغر هي الوسطاني والدويلي والأعلى وباريشا.

يعود ببناء هذه القرى إلى الفترة ما بين القرنين الأول والسابع للميلاد، وقد بلغ عددها 800 موقع  وقرية أثرية، منها ما هو مسكون حالياً ومنها ما هو غير مسكون ويقع معظمها في محافظتي حلب وإدلب.

تم طرح موقع القرى الأثرية في شمال سورية للتسجيل على قائمة الإرث الحضاري العالمي على أنها "مشهد ثقافي"، وهو يعتبر مطابقاً لتعريف "العمل المشترك بين الإنسان والطبيعة"، ويظهر "تطور المجتمع وتوطده على مر الزمن، بتأثير القيود المادية والإمكانيات التي يقدمها إطارهم الطبيعي".

تقع ثلاثة من التجمعات في السلسلة الشمالية لجبل سمعان في محافظة حلب، في حين تقع الخمسة الباقية على سلاسل الكتلة الكلسية الأخرى، إلى الجنوب والغرب من جبل سمعان ضمن محافظة إدلب.

نجد في داخل هذه المناطق التي يختلف امتدادها، لكن مساحتها لا تتجاوز بضعة عشرات من الكيلومترات، مواقع رئيسة ومعروفة (سرجلة والقديس سمعان وكنيسة قلب لوزة)، ومواقع أقل شهرة لكنها ذات أهمية مماثلة، ومواقع صغرى معزولة وغير مسكونة، ومواقع معاد استخدامها جزئياً من قبل السكن الحديث، ومناطق طبيعية وزراعية. تنتشر التجمعات الثمانية على جميع السلاسل الرئيسة التي تؤلف الكتلة الكلسية، وتقدم عينة لتعقيد الموقع وغناه.

أتى الفلاحون الذين قطنوا الكتلة الكلسية منذ القرن الأول من السهول المجاورة نتيجة للزيادة النسبية في عدد سكانها بسبب استصلاح الأراضي، وعمدوا إلى استصلاح الكتلة الكلسية للزراعة ووضع حدود للمقاسم. أسست السلطة الحاكمة مخططاً كادسترائياً ملكياً بهدف السيطرة بشكل أفضل على هذه الحركة العفوية من الاستيطان، وتم تنفيذه على أرض الواقع من خلال شبكة من الجدران الحجرية المنخفضة الموضوعة بشكل متعامد في الاتجاهين شمال-جنوب وشرق-غرب على مساحة تزيد عن بضعة مئات من الكيلومترات المربعة. بقي الفلاحون الذين قاموا بالأعمال الشاقة فقراء، وقاموا ببناء مساكنهم بنفسهم بجدران من الحجر الغشيم، كما مارسوا الزراعة كالقمح والشعير والخضراوات والأشجار المثمرة، وتربية الحيوانات الكبيرة والصغيرة التي يدل على أهميتها المعالف الكثيرة التي ما زالت واضحة  في القرى.

تراجع الازدهار والإنتاج الاقتصادي بين عامي 250 و330، بسبب الطاعون الذي انتشر في المنطقة عام 250 ونتائجه، كما قد يكون من الممكن ربطه بالحروب التي أخضع خلالها الفرس الإمبراطورية الرومانية.

عاد التوسع عام 330 بقوة على الصعيدين السكاني والاقتصادي، ولم يتوقف إلا خلال الفترة 540-550، وبشكل نهائي هذه المرة، وقد ظهر هذا التوسع من خلال تضاعف عدد السكان لثلاث أو أربع مرات. أسبغ الازدهار الاقتصادي طابعاً كمياً ونوعياً على المنطقة، فالفلاحون الذين ازداد عددهم، والذين امتلكوا مساحة متوسطة من الأراضي، أصبحوا أكثر ثراء، وحققوا فائضاً زراعياً، وامتلكوا الإمكانيات اللازمة لبناء مساكن من طراز بيوت الفترة الرومانية نفسه، ولكنها أكثر كلفة وأوسع.

اختبر فلاحو سورية تغييراً جذرياً بعد تركهم للوثنية عند تحولهم للمسيحية، وقد كان الزُهّاد الذين استقروا في الكتلة الكلسية ابتداء من القرن الرابع من عوامل هذا التحول، فقد عاشوا حياة من التقشف أعطتهم سمعة واسعة بين الفلاحين الذين رأوا فيهم الحُماة وأصحاب المعجزات. استقر بعض هؤلاء الزهاد ابتداء من القرن الخامس في أديرة يديرها آباء، ومنذ النصف الثاني من القرن الرابع، بنى الفلاحون كنائس تضاعفت خلال القرنين الخامس والسادس، وظهرت في كل القرى تقريباً.

يعتبر القديس سمعان، أول العموديين وأعظمهم، من بين القديسين الذين حصلوا على سمعة كبيرة في منطقة المتوسط، وكان الأشهر والأقوى سمعة بينهم، وامتدت سمعته هذه إلى الغرب في العالم الروماني. تغير كل شيء ابتداء من عام 540-550، عانت سورية خلال هذه الفترة من المجاعة، والأوبئة كالطاعون وغيره، وارتفاع معدلات الوفيات كل 10-15عاماً، كما عادت الحروب في هذه الفترة ضد الفرس.

تراجع السكان في الكتلة الكلسية في بداية القرن الثامن، وأصبحت الكتلة الكلسية شبه فارغة في القرن العاشر، وهذا الهجر هو الذي سمح بالحفاظ على القرى الكلاسيكية والتقسيمات الزراعية المجاورة لها.

القيمة العالمية الاستثنائية

تشكل القرى الأثرية في شمال سورية على مستوى ثمانية تجمعات تم اختيارها للتسجيل على قائمة الإرث الحضاري موقعاً ذا قيمة عالمية استثنائية.

يقع الموقع على مساحة حوالي 130كم2، يعيش فيه ما يقارب 10آلاف نسمة، وتمثل تجمعاته منطقة ما تزال تحتفظ بآثار الاستيطان البشري العائد إلى الفترة بين القرنين الأول والسابع واضحة، وحيث ساهمت النشاطات الإنسانية منذ الفترة الكلاسيكية بقولبة وتشكيل المشهد الذي ما يزال يحتفظ حتى اليوم الخواص التي تميز بها خلال أواخر الفترة الكلاسيكية والفترة البيزنطية. يسمح الوضع الاستثنائي للحفظ الذي تتميز به الأطلال والمشهد، اللذين هجرا لوقت طويل من قبل الإنسان، بالحصول اليوم على رؤية فريدة لا مثيل لها حول أسلوب حياة سكان هذه المنطقة، وبالتالي حول مظاهر الحياة ضمن المناطق الريفية في نهاية الفترة الكلاسيكية.

تم طرح الموقع للتسجيل على قائمة الإرث الحضاري وفق المعايير الثالث والرابع والخامس لأنه يظهر الطريقة الاستثنائية لنمو حضارة زراعية اندثرت، ولأنه يقدم من خلال أطلاله المعمارية العديدة مواقع صرحية ذات قيمة استثنائية في العالم المسيحي الشرقي، ولأنه يسمح بفهم الطرق الكلاسيكية لاستعمال الأراضي الزراعية، ورؤيتها على ارض الواقع.

يدعم القيمة الاستثنائية العالمية لموقع القرى الأثرية في شمال سورية حالة الحفظ الاستثنائية للأطلال، كالقبور والمساكن والمعابد والكنائس والأديرة التي حافظت غالباً على مواد بنائها الأصلية حتى كورنيش الأسقف. يعتبر تكامل المشهد والمواقع التي لا ينقصها إلا الأجزاء الخشبية والزخارف التي لم تستطع مقاومة الزمن فريداً.

هذا بالإضافة إلى أن أصالة المنطقة محفوظة تماماً بسبب الموقع المتطرف لها مما أبقاها لفترة طويلة خارج الأحداث التاريخية الكبيرة التي حصلت في نهاية الفترة الكلاسيكية إلى فترة الفرنجة إلى الفترة العثمانية، وحتى التحولات التي حصلت خلال فترة الانتداب وتأسيس الدول الحديثة.

معايير التسجيل

المعيار الثالث: أن تظهر تفرد التراث التقليدي الثقافي أو حضارة اندثرت أو مازالت حية.

كانت القرى الأثرية في الكتلة الكلسية شديدة الازدهار منذ حوالي 1500سنة، وتتضمن مئات المراكز المأهولة والقرى، ومارس سكانها الزراعة فزرعوا القمح، والكرمة والزيتون، وشاركوا في التبادلات التجارية، وقاموا ببيع منتجاتهم في جميع مناطق المتوسط. خلال الفترة الرومانية، خضعت تربة الكتلة الكلسية الفقيرة بالتربة الزراعية إلى استصلاح، وعرفت المنطقة مرحلة أولى من الإشغال.

أثرت نشأة المسيحية وازدهارها على المنطقة بشكل كبير، فبدأ بناء الكنائس بالانتشار منذ منتصف القرن الرابع، وتم إنشاء العديد من الأديرة حول القرى. تطور في سورية ولاسيما في الكتلة الكلسية مبدأ الزهد والانقطاع عن العالم والاعتكاف، وبفضل هؤلاء النساك وممارساتهم المتطرفة، حازت المنطقة بسرعة على سمعة عالمية، وبدأت باستقطاب حشود الحجاج. وأصبحت الكنيسة المصلبة التي بنيت حول العمود الذي عاش عليه القديس مركز حج للعالم المسيحي الشرقي.

بدأت المنطقة بالتراجع في القرن السادس، وهجرت شيئاً فشيئاً، وفقدت الحقول والكنائس أهميتها. مع الفتح الإسلامي ترك سكان الكتلة الكلسية الجبال شيئاً فشيئاً، واستقروا في السهول والمدن الكبرى في المنطقة، وبقيت الكتلة الكلسية هامشية بالنسبة للأحداث في الفترة الأيوبية والمملوكية.

تكمن الميزة الرئيسة والأهمية الأكبر بالنسبة للمنطقة في أن هذا الهجر لم يتضمن هدم المباني أو إحراقها، ولم تتعرض البقايا المعمارية العائدة لفترات التطور المختلفة إلا لتأثيرات الزمن، والهزات الأرضية، وبقيت في حالة لا مثيل لها من الحفظ. وهي تشكل بالتالي مجموعاً فريداً، وتقدم رؤية كاملة للحياة اليومية الاجتماعية والاقتصادية، وللممارسات الزراعية خلال مراحل الفترة الكلاسيكية المتأخرة والبيزنطية.

المعيار الرابع: أن تكون شاهداً لنموذج العمارة أو البناء أو المواقع الطبيعية التي تمثل تاريخ البشرية خلال مرحلة معينة.

تشكل هذه القرى مجموعاً فريداً من المواقع الأثرية ضمن حوض المتوسط، وهي تظهر تماماً تطور العمارة السكنية الريفية بين القرنين الأول والسادس. تختلف هذه المواقع عن المواقع الأثرية الأخرى العائدة لهذه الفترة في نوعية البناء وتقنيته المتميزة بالمعرفة التامة بالبناء بكتل الحجارة الكلسية الكبيرة المنشأة معاً بدون ملاط رابط. سمح كل من دقة نحت الحجارة وغنى الزخارف المعمارية، المستلهمين من التقليد الهلنستي للشرق الأدنى، والمتميزين بخواصهما الخاصة، بنمو طراز معماري أصيل ومجدد.

تظهر القرى الأثرية في شمال سورية، من خلال المباني الكثيرة العامة المحفوظة، التحول التدريجي من مشهد وثني إلى مشهد مسيحي.

المعيار الخامس: أن يكون مثالاً بارزاً للتوطن الإنساني التقليدي، وللاستخدام التقليدي للأراضي أو البحر، بحيث يكون ممثلاً لحضارة (أو حضارات) أو للتفاعل بين الإنسان والبيئة، ولاسيما عندما تصبح هذه الأخيرة معرضة لتأثير تحول غير قابل للإرجاع.

تمثل هضاب الكتلة الكلسية مشهداً ريفياً قديماً محفوظ بدرجة استثنائية، ويقدم رؤية فريدة لاقتصاد الشرق الأدنى ومجتمعه خلال الفترة الكلاسيكية المتأخرة.

بقيت قطاعات كبيرة من التقسيمات الزراعية الكلاسيكية موجودة في مناطق التجمعات الأثرية. وتشهد هذه الأطلال التي تمثل تقسيمات الأراضي خلال الفترة الرومانية، وأكوام الحجارة القديمة التي تشكلت من الحجارة التي اقتلعها فلاحو الكتلة الكلسية الأوائل بصبر بأيديهم من أجل خلق مناطق قابلة للزراعة، على الجهود المستمرة للإنسان للسيطرة على منطقة غير منتجة بالأساس واستغلالها في الزراعة، والتي أصبحت بفضل عمل الإنسان منطقة غنية ومنتجة، وصدرت منتجاتها ضمن جزء واسع من العالم المتوسطي. اعتمد اقتصاد الكتلة الكلسية على تربية الحيوانات، وعلى زراعة الزيتون التي ما زالت مستمرة حتى الآن، بالإضافة إلى زراعة القمح، والكرمة.

الأصالة

أصالة هذه القرى قد بقيت بالكامل بسبب موقع المنطقة المتطرف، الذي ظل لفترة طويلة خارج الأحداث التاريخية الكبيرة التي ارتبطت بنهاية العالم الكلاسيكي، وفترة القرون الوسطى، والفترة العثمانية، وحتى فترة التحولات التي سببتها مرحلة الانتداب وولاية الدول الحديثة.

لم تؤثر أعمال التخريب النادرة أو حملات الترميم الأندر التي تمت في المنطقة خلال القرنين الأخيرين على أصالة المادة أو المشهد في مواقع القرى الأثرية في شمال سورية.

السلامة

الموقع مهدد بالضغط السكاني، وبالتحديث الذي لا يمكن منعه، وبهدف حفظ القيمة الاستثنائية العالمية للموقع، فقد تم توسيع مسؤولية المديرية العامة للآثار والمتاحف من خلال قرارات تسجيل التجمعات لتشمل المشهد الثقافي الموجود ضمن النطاقات المطروحة للتسجيل. وقد بوشر بالعمل العميق مع السكان القاطنين في المنطقة بالتعاون النشط مع المحافظتين حيث تقع الباركات (إدلب وحلب).

يعتبر وضع آليات للإدارة تسمح بالتنمية المستدامة للموارد الاقتصادية (الأراضي الزراعية والسياحة) السبيل الوحيد لإدماج السكان في عملية الحفاظ والإظهار، وهذه الإستراتيجية الإدارية ذات المدى الطويل تم وضعها قيد التنفيذ تدريجياً.

جميع الحقوق محفوظة لقناة العالم سورية 2019