زهرة دمشق وبارود حيفا..

الثلاثاء 16 يوليو 2019 - 12:26 بتوقيت غرينتش
زهرة دمشق وبارود حيفا..

«دونك أنا في عبث، أعترف لك مثلما يعترف المحكوم أخيراً بجريمة لم يرتكبها» قالها لملهمته؛ ليظهر جانبه الذي لا يعرفه الكثيرون في عالمه السياسي والأدبي، جانبه العاشق ذا القلب المرهف، لقد قالها لزهرته الدمشقية.

عرفه العالم صلباً جامداً قوياً، منتصراً بقلمه، مواجهاً لأعدائه ومغتصبي وطنه، الذين اغتالوه خشية كلماته، عرفه العالم مناضلاً قومياً، لا يعرف للضعف والعاطفة طريقاً، لكن لم يعرفه العالم عاشقاً متذللاً خاضعاً تحت إرادة وسطوة الحب، لم يعرفه العالم مغرماً ينسج قلمه كلمات تفوح حباً برائحة تمتزج فيها رائحة زهر دمشق وبارود يافا.
بدأت القصة في الستينيات من القرن الماضي، كان هناك روائي شاب فلسطيني، يدعى «غسان كنفاني»، تعرّف على أديبة سورية تدعى غادة السمان، هي مجرد معرفة عابرة في جامعة دمشق، ويقال إنهما التقيا بعد ذلك في القاهرة في إحدى الحفلات الساهرة، وفي تلك الليلة قال لها غسان: «مالكِ كطفلة ريفية تدخل المدينة أول مرة؟».
ومن هذه الليلة والصلة توثقت بينهما في عدة دول عربية، وعاشا علاقة حب لم يسبق لها مثيل، ليتبادلا بعدها رسائل كانت ثمرة هذه العلاقة، والتي نشرتها غادة على كتاب أصدرته عام 1992 في ذكرى المناضل غسان السنوية بعنوان «رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان».

تعدًّ رسائل الحب الورقية التي  يكتبها العشاق ويرسلونها لبعضهم مجرد رسائل غرامية تحمل في طياتها ما تحمله من حب ومن كلمات رقيقة، ولكن رسائل غسان كنفاني وغادة السمان كانت رسائل إنسانية قومية أدبية عظيمة، لأنَّها كانت بين أديبين حفرا اسميهما في ذاكرة الأدب العربي، كانت رسائل غسان كنفاني وغادة السمان وثائق رسمية شاهدة على حبٍّ واعٍ عاقل عميق، لم يشهد الأدب العربي مثيلًا له، وتظهر هذا القيم العظيمة التي حملها هذا الحب من خلال قراءة رسائل غسان كنفاني وغادة السمان التي نشرتها غادة السمان بعد وفاة غسان كنفاني المبكرة، وقد أظهرت هذه الرسائل كمية الحب الهائلة التي كان يحملها قلب غسان شاعر الأرض والإنسان.

لقد استطاع غسان كنفاني أن يقدَّم صورة جلية للمناضل الفلسطيني العاشق، ليس المناضل العاشق لأسوار عكا ودروب حيفا ويافا فقط، بل العاشق للمرأة بكلِّ ما فيها من أنوثة وإنسانية وأدب وجمال، وهذا ما أوقع غسان في حب غادة السمان الكاتبة السورية التي حملت أنوثة الشام معها إلى بيروت.

 ومن أجمل ما جاء في رسائل غسان كنفاني وغادة السمان أو من أجمل ما قال غسان في رسائله التي نشرتها غادة، ما يأتي: 

"لا تكتبي لي جوابًا، لا تكترثي، لا تقولي شيئًا، إنَّني أعود إليك مثلما يعودُ اليتيم إلى ملجئِهِ الوحيد، وسأظلُّ أعود: أعطيك رأسي المبلل لتجففيه بعد أنِ اخْتَارَ الشَّقِيُّ أنْ يسيرَ تحتَ المزاريبِ".

"أنتِ في جلدي وأحسُّك مثلما أحسُّ فلسطين، ضياعهما كارثة بلا أي بديل!".

"أنا لا أستطيعُ أنْ أجلسَ فأرتِّقَ جراحِي مثلما يرتِّقُ النَّاسُ قمصانَهم!".

"سأظلُّ أناضلُ لاسترجاعِ الوطن؛ لأنَّه حقِّي وماضيَّ ومستقبلي الوحيدُ، لأنَّ لي فيهِ شجرةً وغيمةً وظلًا وشمسًا تتوقد، وغيومًا تمطِرُ الخصب وجذورًا تستعصي على القلع".

وكعادة أغلب قصص الحب التاريخية العظيمة، التي تحمل في جنباتها الألم وتنتهي بالفراق، هذا الحب المستحيل ربما وقفت أمامه العديد من القيود الاجتماعية، لكنها لم تقف في وجه مشاعر غسان وكلماته، هو في وادٍ وهي في آخر، وسماء الأدب والإبداع كانت الملتقى.
توفي البطل متفجراً على يد الموساد الصهيوني، مبعثراً كبعثرات حروفه العاشقة، التي نشرتها غادة بعد استشهاده بـ20 عاماً؛ لتقول للعالم إن المناضل العنيد، يحمل بين ثناياه قلب شاعر.
 

 

جميع الحقوق محفوظة لقناة العالم سورية 2019