"عبد الله يوركي".. شاعر الضاد

الإثنين 5 أغسطس 2019 - 09:44 بتوقيت غرينتش
"عبد الله يوركي".. شاعر الضاد

هو ابن العشرين ربيعا عندما أسس مجلة "الضاد"، ليكون حرف الضاد دلالة عربية تنم عن عشق أزلي لهذه اللغة العظيمة، هذه اللغة التي عشقها "عبد الله يوركي حلاق" في سنين عمره الأولى لتشده إليها بقوة.

وليتخذ من ديوان العرب أحرفاً تنطق عن ذاك الحب العربي للغة وأهلها. ليفني سنوات عمره اهتماما باللغة وروادها ومبدعيها، جاعلا من "الضاد" منارة لهؤلاء داخل الوطن وفي المهجر.

وافته المنيّة صباح يوم الجمعة 18 تشرين الأول 1996 وشُيّع جثمانه في تظاهرة رسمية وشعبية ظهر الاثنين 21 تشرين الأول 1996 ودُفن في مدفن العائلة بحلب».

وعن اهتمام والده باللغة وعلومها وكيف أنه كان يرشده للطرق السليمة لتعلم اللغة وعلومها، قال الأديب "رياض عبد الله حلاق" ابن الراحل لموقع eAleppo بتاريخ 18/11/2011: «ولدتُ في بيت علم، أحبَّ اللغة العربية وآدابها. فوالدي كان من الشعراء المعروفين والناثرين المجيدين شغفَ بحبِّ لغة الضاد وقرأ كتب كبار أدبائها وشعرائها كما قرأ القرآن الكريم والإنجيل المقدس، وكان دائماً يهتمُّ بي ويوجهني للقراءة وحفظ الأشعار ممّا هو مفيد وقيّم. 

قال لي والدي ذات يوم: يا بنيّ يا "رياض" إذا أردت للغتك أن تستقيم فعليك الآن أن تقرأ القرآن الكريم. ورحت أعمل بنصيحته حتّى تمكنت من قراءة آياته البينات وفهمها فهماً كبيراً، وكان، رحمه الله، إذا ما أحضرتُ له قصيدة أو أبياتاً نظمتها فكان يقرأ البيت الأول والثاني ويمزّق الورقة، فكنت أقول له: ماذا تفعل يا والدي؟! فيقول لي: هذا صفّ كلام لا أريدك ناظماً بل شاعراً، اذهب واتعب على نفسك. وذات مرّة سألته عن معنى كلمة جاءت في بيت من الشعر لم أفهم معناها فأجابني: عليك بالمنجد (ويعني المعجم المعروف)، وهنا تدخّلت أمّي وقالت: يا عبد الله اشرح له معنى الكلمة. فأجابها: إذا شرحتُ له تعلّم كلمة واحدة أمّا إذا بحث في المنجد فإنّه يتعلّم عشر كلمات. بمثل هذه الإرشادات المفيدة كنت أعمل حتّى استطعت أن أكون شاعراً وأديباً».

** منارات من حياته..

هي العشرات بل المئات من المنارات التي حظيت بها حياة أستاذنا الجليل التي جمعت له رصيدا أدبيا وفكريا كبيرا عمت نسائمه أرجاء الوطن الكبير بل تخطت الحدود في جسر فكري عريق امتد إلى بلاد المهجر. ولأن المنارات كثيرة اخترنا بعضها.

* تقليده وسام صليب القدس: كان هذا مساء الخميس 16/11/1980م في منزله بحضور جمهرة من أصحاب السيادة مطارنة "حلب"، يتقدمهم غبطة البطريرك "مكسيميوس الخامس حكيم". وحشد كبير من الأدباء والمفكرين.

وبعيد احتفال التكريم وبتاريخ 25/11/1980 كتب "عبد الله يوركي حلاق" عن القدس قائلاً: «حملت القدس حبا خالصا في قلبي، قبل أن احمل "صليب القدس" وساما جميلا على صدري. أحبب القدس بكل مشاعري وقلت فيها أحسن 

خلال تكريمه في جامعة حلب 1985
قصائدي، وزرتها يوم كانت تنعم بحريتها وعروبتها، كما زرتها بعد نكبتها الأولى عام 1948، ووقفت على مرتفع من مرتفعات قسمها الشرقي، وفي فؤادي وعيني، ما كان في فؤاد وعيني أبي "عبد الله الصغير" وهو يلقي نظرته الدامية على مدينة "غرناطة"، وقصر الحمراء، وجنة العريف.

وكيف لا أحب القدس وأجلها وفيها ضريح السيد المسيح، وكنيسة القيامة، ودرب الآلام الذي سلكه الفادي الحبيب، حاملا صليبه إلى جبل الجلجلة، حيث عذب وصلب وأسلم وديعته الغالية.

كيف لا أحب تلك المدينة العربية الطيبة وفيها جامع عمر، والمسجد الأقصى، وقبة الصخرة، ومعراج النبي العربي الكريم».

* "وسام الجمهورية": لمناسبة بلوغ "الضاد" عامها الخامس والخمسين واحتفالا بذكرى ميلاد صاحبها الخامس والسبعين، أقامت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة حلب وجمعية العاديات واتحاد الكتاب العرب احتفالا تكريميا لأديب حلب وابنها البار "عبد الله يوركي حلاق"، برعاية الدكتورة "نجاح العطار" وزيرة الثقافة والإرشاد القومي، وبحضور محافظ حلب وحشد كبير من كبار الأدباء والمثقفين. وذلك بتاريخ 11/7/1985م.

ومما كتبه السيد "عبد الله حلاق" في تلك المناسبة نقتطف: «عرف الطيبون من أبناء قومي، أنني كالزهرة المتشبثة بتراب حقلها، إذا قطفت منه، أو بعدت عنه، ذبلت وماتت، ولو غمروا جذورها بكل أنهار الدنيا، ورشوا عليها كل أنداء الصباح.

وأنا امرؤ متعلق بوطني، محب لكل ذرة من ترابه، ولكل قطرة من مائه، ولكل نسمة من هوائه. وقد ولدت وترعرعت تحت سمائه، وعشت فيه كما تعيش الزهرة العبقة الزكية، ترسل أريجها للناس، وتبيح رحيقها للنحل ليمتصه ويحيله عسلا، وتفرح كثيرا، حين تلاعبها الفراشات، وتزقزق من حولها العصافير، وتترقرق على مقربة منها مياه السواقي المتعرجة بين الأعشاب النضرة، وتحت الغصون الوارفة.

منذ صغري، أحببت ثلاثة: الله وأسرتي ووطني العربي الكبير. فالله واحد، ووطني واحد، وبيتي الصغير واحد، لا أطيق البعاد عنه، ولا أرى أجمل منه، حسبي من عطائه لقمة الخبز، وجرعة الماء، وحرية الفكر والعمل».

وخلال حفل التكريم ألقى قصيدة "عصير الحرمان"، نقتطف منها:

شدي على وتر الرباب وغردي / اليوم يا شهباء يبدأ مولدي

اليوم يفترّ الرجال وكنت في / ساح الرجاء كتائه في فدفد

اليوم عرفني الزمان ولم يكن / من قبل مغمور الأصالة محتدي

اليوم ألبسني الربيع قميصه / وسخا فجاد عليَّ بالورد الندي

وادي الضياع سريت في جنباته / هيمان أعبث بالقوافي الشرد

والفجر، أين الفجر؟ ما بال الدجى / يسودّ في أفقي ويحجب مقصدي.

** ماذا يقول عنه من عرفوه..

يتحدث العلامة 
تكبير الصورة
عبد الرحمن المعمر وفاضل السباعي يتوسطهما عبد الله حلاق
"محمود فاخوري" عنه قائلاً: « يعد الشاعر "عبد الله يوركي حلاق" من ذاك الرعيل الذي عرفته بلاد الشام في عالمي الأدب والصحافة خلال القرن العشرين. من أمثال: "شفيق جبري"، و"عمر يحيى"، و"بدر الدين الحامد"، و"عمر أبو ريشة"، و"سامي الدهان"، و"بدوي الجبل"، و"الأخطل الصغير"، و"الجواهري"، وغيرهم من أدباء الوطن والمهجر وشعرائهما.

لقد كان أديبنا الراحل "عبد الله يوركي حلاق" شاعرا أصيلا في وطنيته وعروبته وصفاء سريرته، وتبدو هذه الأصالة لديه في جوانب شتى وكثيرة من شعره، لا أدري أيها أقدّم، وبأيها أنوه وأشيد، وعلى أيها أعول، ولعل أبرزها ذلك الحب الإنساني والتسامح الكريم الذي كان يلازمه في أقواله وأفعاله، وفي أشعاره وآثاره، وكان هاجسه الدائم الذي عاش له، وعاش فيه أيضا، وافتتن في التعبير عنه افتتانا رائعا، حفل بأسمى المشاعر وأنبل العواطف، ولا تكاد تقرأ له قصيدة إلا طلعت عليك تلك النفس السمحة وذلك التألق الجميل.

كان بيته منتجعاً لكلّ أديب قادم إلى حلب، فضلاً عن أدباء مدينة حلب، وقد فتح أبوابه لـهم جميعاً يرحّب بهم ويسامرهم ويُضيفهم عنده.

أمّا مجلّته "الضاد" فقد كانت كلّ شيء في حياته يغذّيها ويعمل على رفع شأنها على الرغم من الصعاب والعثرات التي تعترض طريقه. وتسلّح بالصبر والإيمان وقوة التحمل، ومدّ الله في عمره حتّى رأى "الضاد" تدخل عامها السادس والستين، وهمّة صاحب الضاد لم تقتصر على الاحتفاء بمجلّة "الضاد" ورعايتها واستقطاب الكتّاب من أجلها، بل كان يكتب فيها نفسها وفي غيرها من المجلاّت مقالات أدبية ولغوية وتاريخية واجتماعية، ولا يخلو كلّ عدد أيضاً من أعداد الضاد من مقالة يفتتح بها العدد ويتناول فيها موضوعاً شائقاً وأفكاراً جريئة يطرحها.

وهو إلى جانب ذلك كلّه يؤلّف الكتب، ويصدر الدواوين الشعرية على الرغم من ضيق وقته واتساع أشغاله. فأصدر أربعة دواوين شعرية، وعدة روايات ومجموعات قصصية، إلى جانب كتب أُخرى مختلفة مثل: وضوح الإملاء، وشعراء بدون تكليف رسمي، وقطاف الخمسين، وحلبيات، ومن أعلام العرب في القومية والأدب، وعشت مع هؤلاء الأعلام، والثورات السورية الكبرى في ربع قرن، والحلبيون في المهجر.. إلخ إلخ حتّى بلغ مجموع ما طُبع من كتبه سبعة عشر كتاباً، فضلاً عن كتبه المخطوطة التي هي قيد الطبع، والأُخرى التي هي بحاجة إلى ترتيب وتبويب.

فلا غرو أن يُمنح صاحب "الضاد" العديد من الأوسمة. مثل وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى، ووسام صليب القدس، ووسام مار أفرام برتبة فارس». 

أما رئيس جمعية العاديات الباحث "محمد قجة" فيقول": «عبد الله يوركي حلاق الفارس الذي تربع على سدة الأدب والصحافة، وملأ في حلب رحاب القرن العشرين شعراً ومسرحاً وأدباً وعطاء فكرياً وإعلامياً في كل اتجاه.

أعطى "حلب" قلبه وقلمه وعصارة فكره النقي.. فأعطته حبهاً ووفاءها وتقديرها العميق. ومن حلب كانت رحلته الواسعة عبر أقطار الوطن العربي والعالم، رحلة حروفها "الضاد" ودادها سيل من قلمه المعطاء متدفق عبر عشرات السنين لا يعرف التوقف ولا الانقطاع».

وختام الكلام بأبيات من قصيدته "ها هي الشام"

لا تسلني متى أزور الشآما / ها هي الشام طلعة وقواما

أقبلت تلثم الزهور خطاها / والقوافي تلقي عليها السلاما

حرت والله كيف أعلن شكري / وامتناني وقد عييت كلاما

ألق الصبح في محيا (نجاح) / ذهبي وشَّى الرّبى والغماما...

(حافظ) زادها إباء وعزما / لم يطأطئ لغير باريه هاما

كل شبر من أرضنا غيل ليث / قبّل الأرض إن أتيت الشآما

عربيّ أنا، أحب نبيا / عربيّا، وأكرم الاسلاما

 

جميع الحقوق محفوظة لقناة العالم سورية 2019