القصاص الشعبي ترجمة حنين وتراث سوري

الإثنين 28 أكتوبر 2019 - 11:59 بتوقيت غرينتش
القصاص الشعبي ترجمة حنين وتراث سوري

شخصية جسدها كثيرون على مدى عقود من الزمن.. الحكواتي مهنة عرفتها دمشق وانتشرت في مقاهيها منذ القدم وحظيت بشعبية كبيرة فكانت جزءا من التراث الشعبي ووسيلة للترفيه وتكريس القيم التي تحلى بها أبطال القصص والروايات.


وقد نشط الحكواتي في صدر الإسلام والعصر الأموي، بما كان يُصور للناس من صور المغازي والفتوحات، فيحكيها لهم بأبدع حلة وأروع الصور، ما كان يتوافق مع الحياة العامة من أخلاق حميدة وفضائل، وقد كان مركز عمل هذا القصّاص الشعبي في تلك الحقبة، صحن المسجد أو الجامع عقب كل صلاة، ولما كثُرت الأقاويل عن ذلك، أصبح القصّاص الشعبي (الحكواتي) يمارس نشاطه بالساحات العامة، وبالأماكن التي يجتمع بها الناس، للاستماع إلى ما يرويه القصّاص الشعبي من أخبار الأبطال والفاتحين، فضلاً عن نوادر السلف وذلك زاد اهتمام الناس بما يقوله القصّاص الشعبي، ومن إقبالهم للاستماع إليه، لما كان عليه هذا القصاص من رواية لتصوير الحدث وشخوصه حتى لكأنه يحاكي بروايته للحدث من يتحدث عنهم وكأنه منهم.


كنت ترى هذا القصاص، إذا حاكى الفأفأة، كأنه جمع كل فأفأة في الأرض على لسان واحد، وإذا حاكى الأعمى، فإنه يصوّره بصور ينشئها بوجهه وعينيه وتقاطيع ذلك وحركاته حتى لكأنه جمع العميان بأعمى واحد، وخلال ذلك يقوم بالحركات الموقوتة والمؤثرات الصوتية اللازمة لخلق الجو المناسب لذلك التصوير للأعمى، وذلك كله من أجل أن يضمن تحسس المتلقي باقتناع تام.
فإن القصاص الشعبي بذلك الحين ينقل بصوته مواقف الوعيد والزجر والغضب، ومن ثم يحكي مشاعر القبول بل النصر والغزل.


والقصّاص الشعبي والحال هذه حافظة شعبية للسّير التي يقصها أو يرويها للناس، الأمر الذي جعله مهندساً لعواطف مستمعيه وفق مقتضيات أحداث السيرة، ومصائر أبطالها بل شخوصها، فهو في ذلك يبث مكارم الأخلاق والسمات العربية في جمهوره، من محبّة وكرم، وحميّة ومروءة، وحفظ للذمم ورعاية للجار، وهو ينسب هذه القيم لأبطال السيرة الذين يحالفهم الحظ على مناوئيهم الذين يتصفون بالكذب والبخل والخيانة والغدر والخديعة وغير ذلك من المفاسد التي يتّصف بها الأشرار، ويحرص الناس على النّأي منها ويستقبحون أي سلوك من هذا القبيل، وكان الجمهور يسمع ذلك، ويتفاعل مع الحكواتي بالتصفيق تارة، وعبارات الإطراء تارة أخرى، ومن ثم يتعاطف هذا الجمهور مع أبطال السيرة حتى لكأنهم يعيشون مصائر أبطال السيرة.


فقد كان لكل حكواتي رواده، فترى الواحد منهم ينتقل من حي بالمدينة إلى الحي الآخر الذي يعمل به الحكواتي، على ما في ذلك من عناء هرّ أو قرّ. لأن هذا الجمهور يتوافق مع ذلك القصّاص الشعبي (الحكواتي)، ويرى فيه البراعة وسرعة البديهة في إلقائه وصدق تعبيره، وخاصة تصعيد حبكة الأحداث وحلها مع تطلعاتهم ومزاجهم، وكنت ترى الجمهور في جلوسه للاستماع إلى القصّاص الشعبي ينقسم إلى فئة تؤيد وفئة تعارض ما يذهب إليه الحكواتي، ومن ثم فقد كان الحكواتي أو القصّاص الشعبي يستغل هذه الظاهرة، فيعمد إلى تصعيد الأحداث من باب التشويق، ويوقف ما يرويه لجمهوره ويؤجله إلى اليوم التالي وذلك يكون فيه البطل بموقف حرج، الأمر الذي يثير أنصار البطل طالبين متابعة الرواية لإنقاذ البطل مما هو فيه.


وقد كان من المألوف، أن يكون الحكواتي في مقهى واحد من مقاهي الحي بمدينة دمشق، لكن ذلك تغيّر ولم يعد يوجد حكواتي إلا بأماكن محددة، من أشهر هذه الأماكن مقهى النوفرة ومقهى آخر بمنطقة الجسر الأبيض.
فضلاً عن ذلك فقد كان الحكواتي أو القصّاص الشعبي معروفاً بالبلاد العربية، وأخذ بكل من هذه البلاد صورة متشابهة مع اختلافات بسيطة.


وكان الحكواتي كما شاهدته في مطلع العقد السادس من القرن العشرين بمقهى في مدينة اللاذقية بالقرب من ساحة الشيخ ضاهر يتجول بين الحضور وهو يروي السيرة التي يقدمها، وبيده خيزرانة يلوّح بها إلى هنا وهناك، وهو يجول بين الحضور، ويروي لهم السيرة، فتراه وهو في ذلك يضرب بالخيزرانة على هذه الطاولة أو تلك وقد جلس عليها الرواد من المستمعين إلى الحكواتي.
أما في مدينة دمشق، فقد كان مكان الحكواتي بصدر المقهى وهو على سدة عالية مجللة بالسجاد وبأصص زريعة الصالون، وهو في ذلك يقصّ على جمهوره السيرة التي يقدمها، وكان من أحب هذه السير إلى الجمهور سيرة عنترة بن شداد، وسيرة الملك سيف بن ذي يزن، وكذلك سيرة الزير سالم.

المصدر: وكالات

جميع الحقوق محفوظة لقناة العالم سورية 2019